التعددية القانونية: تنازع أم تعايش بين الأعراف والنظام القانوني المركزي؟

بقلم
3592

تكمن النقطة التي ننطلق منها في دراسة المشكلة التي يستعرضها هذا المقال[1] في وجود ملا يقل عن نظامين قانونين من الحياة القانونية جنبًا إلى جنب وفي الوقت ذاته في فلسطين، وهما القوانين والأنظمة المقنَّنة، ونظام القضاء العشائري (غير النظامي) الذي يقوم في أساسه على الأعراف السائدة في أوساط المجتمع الفلسطيني. فما هي الأمكنة والأدوار التي يتبوأها هذان النظامان في المجتمع الفلسطيني اليوم، وهل يملكان القدرة على الوجود والتعايش مع بعضهما البعض في الوقت نفسه؟ وهل ينبغي توصيف هذا الوجود على أنه غير عملي في ظل الأهداف السياسية التي قررتها السلطة الفلسطينية بعد التوقيع على اتفاقيات أوسلو؟ مما لا شك فيه أن هذين النظامين يتسمان "بالتنازع". غير أن هذا التنازع لا يعني انفصالاً تامًا وكاملاً بين نظامين قانونيين، وهو لا يعني الافتقار إلى القدرة على تحقيق التكامل بينهما في نفس النظام السياسي المركزي الذي تعتمده الدولة.

الماضي والحاضر: القانون من منظور تاريخي

على الرغم من انتشار المعرفة العامة حول تاريخ القانون في فلسطين، من المفيد الخروج بملاحظة حول سياق التسلسل الزمني الذي نشأت فيه المؤسسات العامة، التي أنتجتها أنظمة الحكم المتعددة التي مارست سيادتها على فلسطين. ويتيح تتبُّع هذا التسلسل الزمني لغير المتخصصين التوصل إلى فهم أفضل حول كيفية تطور النظام القانوني الفلسطيني خلال الحقب التاريخية التي يشملها هذا التسلسل الزمني. فمنذ الحكم العثماني في فلسطين، سعت السلطات السياسية التي تعاقبت على حكم فلسطين إلى ضبط نظام القضاء الغير نظامي، وذلك بمعنى تنظيم المجالات التي يتدخل هذا النظام فيها وتقييدها. وكانت إجراءات تقنين التشريعات تسير على قدم وساق منذ انطلاق عملية الإصلاح (حركة التنظيمات) التي نفذتها الدولة العثمانية، كما عمل العثمانيون على تشكيل هذه الإجراءات وتعديلها بصور متفاوتة في مراحل لاحقة. وعلى هذا المنوال، فلم تبتعد سلطات الانتداب البريطاني وسلطات الحكم الأردني في الضفة الغربية والإدارة المصرية في قطاع غزة عن هذا التوجه، حيث أبقت – من الناحية العملية – على جميع هيكليات وممارسات القضاء الغير نظامي التي ورثها الفلسطينيون عن الحقب التاريخية السالفة. ومع ذلك، فقد وردت بعض الاستثناءات على هذا المسار، وذلك من قبيل قانون منع الجرائم بين العشائر والحمائل رقم (47) الذي سنّته سلطات الانتداب البريطاني في العام 1935 بغية الحد من أعمال الثأر في أوساط المجتمع الفلسطيني.[2]

وبعد العام 1967، أضحى نظام القضاء غير النظامي الساري في الضفة الغربية وقطاع غزة نظامًا بديلاً حل محل نظام القضاء النظامي. ومع ذلك، يتعين فهم هذا المصطلح واستيعابه على نحو دقيق. ففي الحالات التي يوجد فيها نظامان قضائيان أو أكثر في الوقت ذاته، يُترك الأمر للأفراد المعنيين لاختيار أحدهما دون الآخر. وعادةً ما يعتبر علماء الأنثروبولوجيا المتخصصون في حقل القانون أن الناس هم أصحاب القرار في مثل هذه الحالات، حيث يحددون الإستراتيجية التي يرتؤونها للنظر في قضاياهم ودعاواهم من خلال عدة أنظمة قضائية متاحة أمامهم. وبعبارة أخرى، يملك هؤلاء الأشخاص ما يشبه "ذخيرة أو مخزونًا" من الأنظمة القضائية. وقد كان هذا هو الوضع السائد قبل العام 1967. ولكن بات التمييز بين المحاكم النظامية والقضاء الغير نظامي يُعتبر حاسمًا بعد أن وضعت الحرب أوزارها واستشرى الفساد في الضفة الغربية وقطاع غزة. فبالفعل، أمست سلطات الاحتلال تهيمن على النظام القضائي "الرسمي" وتتدخل فيه. وباستثناء الدعاوى القضائية التي كان الأشخاص يُعتقلون ويُدانون على ذمتها، فلم يكن أمام المواطنين الفلسطينيين من خيار سوى عرض قضاياهم على القضاء الغير نظامي. وكان هؤلاء المواطنون يختارون الآليات المتعارف عليها مجتمعياً لتسوية نزاعاتهم ويتحاشون النظام الرسمي الذي كانت الشكوك تحوم حوله. وربما يبدو أن هذا هو السبب الذي يقف وراء صعوبة تصنيف فترة الإحتلال الإسرائيلي على أنها "العصر الذهبي" الذي ازدهر فيه القضاء غير النظامي. فنحن لا نجانب الصواب إن قلنا أن المواطنين الفلسطينيين لم يكن أمامهم من خيار سوى اللجوء إلى نظام القضاء العرفي والاحتكام إليه، ولكن هذا القول نفسه هو ما دفع هؤلاء الناس في أوقات أخرى إلى الإصرار على الاستفادة من الأنظمة القضائية المتعددة التي كانت متاحة أمامهم واختيار "آلية تسوية النزاعات" التي يعتبرون أنها تفوق غيرها في نجاعتها وفعاليتها، والتي ربما تتفوق عليها في تحقيق الإنصاف والعدالة لهم بحسب ما تمليه مصالحهم دون غيرها.

 

التعددية القانونية بعد أوسلو

تشير العديد من الدراسات إلى أن وجود العرف مصدراً من مصادر التشريع في فلسطين، يُعتبر أمرًا ذا صلة وضروريًّا لتطور النظام القانوني الفلسطيني ورقيّه. فعلى مستوى قانوني محدد، يشكل القضاء الغير نظامي قضية محورية لأنها تتيح الفرصة لإثارة مسألة التعددية القانونية، وهي تضفي فائدة كبرى لأن قلة قليلة من فقهاء القانون يتّحدون في نظرتهم للتاريخ الاجتماعي للقانون ولوجود عدة أنظمة قانونية مع بعضها البعض داخل النظام القانوني المركزي، الذي يتوجه نحو فرض تفسير فريد يحتكره للقانون. ويُعتبر هذا التوجه مشروعًا ولا يمكن الاستغناء عنه في الحالات التي يتعين فيها تطوير النظام القانوني والارتقاء به. فبالفعل، تسبّب الاحتلال العسكري الذي لم يزل جاثمًا على أرض فلسطين في تقويض المؤسسات القانونية والقضائية التي تم إنشاؤها بموجب اتفاقيات أوسلو.

ومن الأهمية بمكان تجاوز حرفية النص القانوني بغية فهم كيفية تشكُّل القانون واصطباغه بصفة مركزية كذلك في أي حقبة تاريخية وفي أي موقع بعينه. فقد كان هذا النظام القانوني المركزي موجودًا في أوقات مختلفة على مدى تاريخ فلسطين. فعند إطلاق حركة التنظيمات (الإصلاحات) العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر، باشرت الدولة العثمانية تنفيذ إجراءات الإصلاح الواسعة التي عمّت ميادين الاجتماع والسياسة والقانون والقضاء. وكان من المتوقع أن تفضي موجة الإصلاحات المذكورة إلى تجديد الممارسات والمؤسسات الإدارية في المجتمعات العربية وعموم منطقة الشرق الأوسط. وبالنسبة للتشريع والقضاء، سعى القائمون على حركة التنظيمات العثمانية إلى تحقيق التجانس بين المحاكم ومدارس القانون، حيث كان يُعتقد بأن هذه الإجراءات قد تساعد السلطان على تعزيز بسط سيادته وإحكام قبضته على مختلف ولايات الدولة وأقاليمها. وبعد ذلك بعدة عقود، شكلت العهود التي مرت بها فلسطين، بما فيها حقبة الانتداب البريطاني على عموم فلسطين والنكبة التي تلته (التطهير العرقي للمواطنين الفلسطينيين) في العام 1948 وتقسيم فلسطين إلى ثلاثة أجزاء وقيام الحكم الأردني في الضفة الغربية والإدارة المصرية في قطاع غزة، تجارب متنوعة شهدت استفحال المركزية القانونية. ولكن على الرغم من إجراءات الإصلاح التي شهدتها فلسطين، يبدو أن الشعب الفلسطيني كان متشككًا في جميع أحواله في الإجراءات المركزية الإدارية. ويعود جانب من الأسباب وراء ذلك إلى الأصل الغريب الذي انحدرت منه السلطات السياسية التي تولت المسؤولية عن إدارة تلك المؤسسات الجديدة.

ومن وجهة النظر هذه، يستطيع المرء أن يخرج بنتيجة مفادها أن التقاليد والأعراف المحلية تشكل جزءًا أصيلاً لا يُستغنى عنه في المنظومة القانونية الفلسطينية، وأنها تُعتبر بعمومها مكونًا هامًا من مكونات الهوية القومية في فلسطين. وربما يعود السبب في ذلك إلى الصفة الشرعية المتجذرة التي اكتسبها النظام الفلسطيني في تسوية الخلافات والمنازعات على مدى تاريخه. ويمكننا أن نرى في الحياة اليومية التي يعيشها أبناء الشعب الفلسطيني أن الوسائل غير الرسمية التي تحظى بالرعاية الاجتماعية في حل المنازعات تشكل جزءًا لا يتجزأ من الأفكار التي يحملونها عن العدالة، حيث تضطلع هذه الآليات بدور أساسي في التخفيف من وطأة التوتر الذي يطغى على المجتمع بسبب الخلافات التي تثور بين أفراده.

وفي الوقت ذاته، يعتبر عدد ليس بالقليل من ممثلي المؤسسات السياسية والاجتماعية، بالإضافة إلى المحامين وفقهاء القانون، في فلسطين أن الآلية المتبعة في تسوية النزاعات خارج إطار المؤسسات الرسمية يُنظر إليها على أنها تثير مشاكل تتصل بمسائل الإنصاف والعدالة والحرية ومفاهيم الدولة الحديثة، وذلك في نفس الوقت الذي تسهم فيه في التخفيف من وطأة التوتر الذي يسود المجتمع الفلسطيني. وبعبارة أخرى، ينطوي هذا الواقع على تناقض جوهري بين الأسلوب العرفي المطبق في تسوية المنازعات وبين مبدأ سيادة القانون الذي تجسده محاكم الدولة.

ومع ذلك، فمن المستحيل من الناحية العملية تقدير أهمية القضاء الغير نظامي دون النظر في "كفاءة" "محاكم الدولة" أو على الأقل النظام القضائي التي تُعمِله السلطة الفلسطينية والذي يجد تنظيمه في إطار اتفاقيات أوسلو. فقد تسبّب تدخل الأجهزة الأمنية في تقويض نظام المحاكم النظامية. وإذا ما نظرنا إلى هذا الأمر من هذه الزاوية، نستطيع القول أن استقلال القضاء يتعرض للتهديد وأن سيادة القانون تخضع للتفسيرات المغلوطة الزائفة. ومع ذلك، فلا يجوز أن تسمح هذه الملاحظة لنا بالاستنتاج بأن كلا النظامين متعارضان بصورة مطلقة وأنهما لا يتوافقان مع بعضهما البعض من الناحيتين الاجتماعية والسياسية. فعلى سبيل المثال، أصاب الكتاب الذي نشره معهد الحقوق قي جامعة بيرزيت حول نظام القضاء غير النظامي في تأكيده على جوانب التكامل التي تجمع ما بين هذين النظامين، وليس على جوانب التعارض بينهما.

تتيح لنا هذه الملاحظة الأخيرة أن نمعن التفكير في الأسس التي تقوم عليها القضية المركزية التي تثير المشكلات التي نواجهها في هذا السياق، وأعني بذلك التعددية القانونية. فجانب كبير من الفضل يُعزى إلى مشاركة الباحثين في الحقل القانوني "ما بعد الكولونيالي" في إعداد نظريات التعددية القانونية خلال السنوات القليلة الماضية، حيث نجحوا في دحض الفكرة التي تقول بأن القانون يُعتبر متجانسًا ويخضع لسيطرة الدولة بصفة حصرية. وبحسب ما يفترضه الكثير من علماء الاجتماع وعلماء الأنثروبولوجيا منذ إميل دوركايم، يتسم القانون قبل أي شيء آخر بطبيعته التعددية، مَثَله في ذلك مَثَل أي تعبير آخر عن الحياة الاجتماعية. ولكن المفاهيم السائدة في الغرب حول القانون تتجه إلى التورية عن البعد التعددي الذي يتصف به القانون لصالح اعتقاد عام أو رأي شائع، وهو معنى يقابل تفوُّق الدولة وصدارتها، ولا سيما الدولة القومية. ويفترض فقهاء القانون الأوروبيون، وعلى نحو قاطع نوعًا ما، أن المجتمعات التي تسود فيها دول ضعيفة في هيكلياتها هي مجتمعات خاضعة لأنظمة قانونية متباينة في أساسها، وذلك على نقيض تلك المجتمعات التي تتمتع فيها الدولة بدرجة عالية من المركزية. وقد ألهمت هذه المنهجية عملية التقنين التي طبقتها أوروبا منذ القرن السابع عشر، وتعززت هذه العملية مع انتشار قوانينها عبر العالم. وقد جرى تعميم القوانين الأوروبية في جميع أنحاء المعمورة في ظل هيمنة الدولة التي أُضفي عليها طابع رسمي في التاريخ الأوروبي عقب التوقيع على معاهدة وستفاليا (1648). وبناءً على ذلك، تعني النتيجة المنطقية التي يلاحظ ماكس فيبر فيها أن صاحب السلطة في مجتمع ما يحتكر ممارسة العنف "المشروع" وأن الدولة تحتكر "سنّ القوانين" كذلك.

 

أنظمة قانونية متضاربة أم ممارسات قانونية تتفاعل مع بعضها البعض؟

نحن لسنا بصدد نظامين منفصلين يتعايشان مع بعضهما البعض في المجتمع ذاته في فلسطين، وإنما نحن في مواجهة وضع لا يفتأ يوفق بين آليات متباينة لحل النزاعات وتسويتها. فعلى سبيل المثال، من شأن صفْح الفريق المجني عليه إيقاف دعوى الحق العام بموجب أحكام قانون العقوبات لسنة 1960، الذي سُنّ إبان حقبة الحكم الأردني في الضفة الغربية. وعلى هذا المنوال، يجيز القانون المذكور للقضاة المعينين في محاكم الدولة تطبيق الظروف المخففة على المدعى عليه في قضايا معينة وفي الحالات التي يجري التوصل فيها إلى الصلح.

لا متسع هنا لرصد كافة الشواهد بوجود علاقة بين كل من النظام القانوني الرسمي والقضاء غير النظامي وقد تساعدنا الدراسات التي أعدها باحثون في معهد الحقوق في جامعة بيرزيت في مجال علم الاجتماع القانوني والقانون والمجتمع الى الخروج بفهم يقضي بأنه حتى لو كانت الأنظمة القانونية المتضاربة تتعايش مع بعضها البعض، فهي ليست بالضرورة في حالة نزاع دائم. فمن الناحية العملية، لا تستطيع السلطة القضائية نيل ثقة العامة فيها إن لم تأخذ في عين الاعتبار القيم والقواعد الاجتماعية المتأصلة في المجتمع.

 

استنتاج

لا تكمن المشكلة التي نعيشها في فلسطين، في ظل حكم السلطة الفلسطينية، في إنكار وجود تعديدية قانونية راسخة وثابتة. ما زال نظام القضاء الغير نظامي يحظى بأهمية عالية بصفته تعبيرًا عن الواقع الذي يعيشه المجتمع الفلسطيني تحت الإحتلال. وفي الواقع، ما تزال المشكلة تتمحور حول كيفية التعامل مع التعددية في ظل وجود سلطة تقوم على أجزاء مقسَّمة وغير مترابطة من أرض فلسطين التاريخية وكيفية الاستفادة من الأعراف والعادات والتقاليد السائدة في المجتمع في عملية تطوير نظام قانوني يعبر عن تاريخ وهوية ونضال الشعب الفلسطيني من ناحية ومنسجم مع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية من ناحية أخرى.



[1]  يعتمد المقال على دراسة أعدها معهد الحقوق في جامعة بيرزيت حول القضاء غير النظامي وسيادة القانون وحل النزاعات في فلسطين.

[2]  أنظر قانون منع الجرائم بين العشائر والحمائل رقم 47 لسنة 1935، المنشور في العدد رقم 557 من الوقائع الفلسطينية (الانتداب البريطاني)، ص. 249.   

عضو هيئة أكاديمية في معهد الحقوق وكلية الحقوق والإدارة العامة في جامعة بيرزيت. عُيِّن في جامعة بيرزيت في شهر كانون الثاني/يناير 2005. وقد استهل عمله كباحث أكاديمي ومنسق كتاب فلسطين السنوي للقانون الدولي في معهد الحقوق، ثم تولى إدارة البرامج في المعهد مع بداية العام 2006 ومن ثم إدارة المعهد منذ 1 آب/أغسطس 2012 وتتركز اهتماماته البحثية في مجالات تاريخ القانون، وحقوق الإنسان، ونظرية القانون، ودراسات القانون والمجتمع، والدراسات القانونية النقدية.

تعليقات

  • لا يوجد أي تعليقات حتى الآن. كن أول من يرسل تعليق

اضف تعليق

زائر الأحد, 22 كانون1/ديسمبر 2024