الإصلاح القانوني وبناء الدولة وتفكيك الإستعمار

الإصلاح القانوني وبناء الدولة

 

بعد مرور عقد ونيف على نشوء السلطة الفلسطينية، وقيام سلطتها التشريعية بإقرار ما يزيد على مائة وعشرين قانوناً، بات ضرورياً فحص مدى إسهام العملية التشريعية الفلسطينية في تحقيق إرادة المجتمع الفلسطيني وطموحاته، وبخاصة إسهاماتها في إرساء أسس الدولة الفلسطينية العتيدة.

اتخذت العملية التشريعية منذ العام 1994 طابعا إصلاحيا، حيث السلطة الفلسطينية بيئة قانونية بالغة التعقيد، هي عبارة عن خليط من التراكمات التاريخية التي تبلورت بالارتباط بأنظمة سياسية متعددة، وشكلت هذه البيئة انعكاساً وضعيّا لمصالح وأطماع استعمارية. وكان لا بد من اتخاذ سياسات وقرارات تشريعية لإصلاح هذه البيئة، ومواءمتها مع الوضع الراهن (الانتقالي)، ومع متطلبات المستقبل (تأسيس الدولة المستقلة). لذا أصبح من الضروري فحص النجاحات والإخفاقات، وإجراء تقييم شامل لهذه العملية للإسهام في بناء إستراتيجية تشريعية مستقبلية.

ولما كانت العملية التشريعية الفلسطينية تشكل أحد أشكال التعبير عن الإرادة الفلسطينية، وطموحات المجتمع الفلسطيني؛ بات مناسبا طرقها من منظار اجتماعي قانوني، يتفحص قدرة هذه العملية على تحقيق الأهداف الرئيسة، التي وضعها هذا المجتمع نصب عينيه، ملخّصةً في إنهاء الاحتلال، وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة. ولأن الاستقلال غير ممكن دون تفكيك البنى الكولونيالية التي أرستها النظم الاستعمارية؛ اتخذت الدراسة التي خرج بها المشروع، منحى دراسات "القانون والمجتمع"، وهو نمط يمزج بين البحث القانوني التقني والسوسيولوجي والسياسي.

ويحاول منهج "القانون والمجتمع" أن يدرس الهدف من التشريع وطبيعة القوى الكامنة خلف العملية التشريعية وأهدافها ومصالحها، وفحص آثارها ومفاعيلها الاجتماعية (بما في ذلك جوانبها الاقتصادية والسياسية) لمعرفة طبيعة التغيير الذي أحدثه القانون المشرَّع.

يتمثل الهدف الرئيس للدراسة في النظر، بعين فاحصة وناقدة، في الإصلاحات القانونية التي تمت في الفترة يغطيها المشروع، من حيث تلبيتها للإستراتيجيات التي تهدف إلى إنشاء دولة مستقلة وديمقراطية ومستقرة. وهذا لا يتأتى إلا من خلال استعراض وتحليل نقدي شامل، يمكّن من الخروج بمادة موضوعية تُغني المعرفة، وتكون قابلة للاستخدام من قبل المشرعين، والساسة، وصنّاع القرار، والباحثين، وتشكّل مرجعا للمعنيين.

تفحص هذه الدراسة مدى نجاح العملية التشريعية في تحقيق هذا الهدف، وتلقي الضوء على النجاحات والإخفاقات، وتحاول اكتشاف أسباب الفشل والنجاح ضمن رؤية شمولية، غير مقتصرة على الجوانب التقنية في العملية التشريعية، ولا مهملة لها، بل واضعة إياها في سياقها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وواضعة الوضع الفلسطيني، والحقبة قيد الدراسة، في سياق الصراعات الكولونيالية، وما بعد الكولونيالية.

تعتبر هذه الدراسة عملا رياديا في السياق العربي، من حيث كونها دراسة قانونية-اجتماعية تضع الممارسات القانونية في سياقها الاجتماعي العام، وتجاوز الطابعين النخبوي، والتقني للعملية التشريعية، لتسبر غور الأفعال السياسية، والاقتصادية والاجتماعية للتشريع، وتمكّن من الإجابة عن تساؤلات الدراسة بشكل مهني وعلمي.


المنهجيات

نحت الدراسة منحى الكشف عن العلاقة بين التشريع، وصانعيه والنخب المهيمنة من جهة، وفئات المجتمع ومؤسساته المختلفة وتفاعلهم، من جهة أخرى، منطلقة من فحص أثر التشريع على الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية في حياة الشعب الفلسطيني.

وتم في هذه الدراسة توصيفٌ وتحليلٌ للبنى القانونية الكولونيالية، وآلياتها، وتفاعل المجتمع الفلسطيني معها، وكذلك توصيف وتحليل آليات العملية التشريعية، ودوافعها، وإشكالاتها، كما مارستها السلطة الفلسطينية، وتشخيص نتيجة التفاعلات الحاصلة، ضمن عميلة التغيُّر في خريطة النظام، والتحولات الناتجة عن ديناميكيات عمل السلطة الفلسطينية، والنخب الأخرى، والحراك المجتمعي، وتم النظر إلى ذلك كله، بشكل رئيس، من خلال فحص أثر العملية التشريعية على عمليتي تفكيك البنى الكولونيالية، وبناء الدولة.

تستخدم هذه الدراسة أدوات مختلفة لتحقيق أهدافها، تشمل الدراسة التحليلية للعمليات التشريعية الكولونيالية والوطنية على حد سواء. كما تستخدم العينات للتأكد من انطباق دراسة الأجزاء على الكل، في حالة القوانين التي تم تحليلها بشكل تفصيلي، وتستند إلى عدد من الأوراق الخلفية في مواضيع مختلفة ذات علاقة بدراسات الحالة، والبحث الميداني لفحص الفرضيات المتعلقة بدوافع أعضاء المجلس التشريعي وتصوراتهم، وأدوات أخرى ليس آخرها اللجوء إلى الحس السليم.


نطاق الدراسة

تحدَّد نطاق الدراسة في بحث عملية الإصلاح القانوني، عن طريق التشريع، منذ نشوء السلطة الفلسطينية ذات الصلاحيات التشريعية، في العام 1994، وحتى انتهاء عمل المجلس التشريعي الأول في العام 2006. تعالج الدراسة بالأساس الأعمال التشريعية على مستوى القوانين السارية التي سنها المشرع الفلسطيني دون إغفال ارتباط هذه الأعمال بالتشريع الثانوي (قرارات مجالس الوزراء) والممارسة السياسية.