كيف نصنع دستوراً ديمقراطياً لفلسطين؟

بقلم
3369

مقدّمة: 

يعدّ الدستور الموطن الطبيعي للعقد الاجتماعي

 

السؤال الذي يتداوله كثير هذه الأيام هو كيف نصنع دستوراً لفلسطين؟ ويطرح آخرون اسئلة متعلقة بتوقيته ومدى الحاجة إليه الآن، خصوصاً وأنّ لدينا قانون أساس، وهل يمكن في ظل الانقسام السياسي الحالي الخروج بدستور لا يعبّر بدوره عن واقع الانقسام، بل ويزيد من تمسك الأطراف المختلفة بمواقفها وتخندقها في مواقعها؟

أما سؤالي فهو ببساطة: كيف نصنع دستوراً ديمقراطياً لفلسطين؟ وإن تعذّر هذا الآن، فلا شك سنضع لفلسطين دستورها الديمقراطي، في ظروف مواتية لمهمة من هذا النوع.

الدستور هو "أبو القوانين" وأمها، وهو القانون الأساس، وأعلى التشريعات مرتبة في الدولة، من أبرز وسائل ربط الأفراد والمؤسسات في اقليم ما معاً. تتفق - من خلال الدستور - الجماعة أو الشعب على طريقها للمستقبل، وعلى هذا النحو يعدّ الدستور الموطن الطبيعي للعقد الاجتماعي. والدستور وسيلة أساسيّة لتقييد سلطة مؤسسات الدولة، من خلال ضمان حقوق مواطنيها.

 

أهميّة الدستور في الحالة الفلسطينية الراهنة:

يعبر الدستور عن ارادة الشعب فيما يخص مستقبله وأهدافه ومؤسساته وحقوق أبنائه

 

هناك قائمة متفق عليها لمحتويات الدستور والقضايا التي يعالجها، وهذه تشمل: الهويّة وتشكيل الحكومة والفصل بين السلطات وضمانات حقوق الإنسان والعلاقات الدولية ومكانة الاتفاقيات الدولية في النظام القانوني وضوابط وقف العمل بالدستور وأحكام حالة الطوارىء.

بالنظر لما ورد أعلاه من مكوّنات تتضمّنها الدساتير عادة، وخصوصا لكون الدستور متضمنا مكوّنات أساسية مما يعرف بالعقد الاجتماعي، ولأن الدستور معبّر عن ارادة الشعب فيما يخص مستقبله وأهدافه ومؤسساته وحقوق أبنائه، فإنّ من الأهميّة بمكان أن يكون تطوير نصوصه من خلال طريقة تشاركية ديمقراطية.

وبالنظر للإنقسام السياسي الذي عانينا منه منذ حوالي عقد من الزمن، وتجلياته بتعثّر توحيد هياكل الحكم في الضفة وغزة، فإنّ عمليّة صياغة أحكام الدستور ربما لا تقل أهميّة عن محتواه ونصوصه. ولعّل عملية تطوير نصوص الدستور تكون وسيلة في ردم الهوّة بين الأطراف المتناحرة، وفي تسوية الخلافات، وفي وضع أطر تحل من خلالها أي خلافات مستقبليّة فيما يخص الانتخابات وصلاحيات الرئاسة والحكومة والخدمة المدنية والمنظومة الأمنية والحكم المحلي وتشكيل المحاكم وغيرها.

ولأن فلسطين وقّعت على عدد كبير من الاتفاقيات والمعاهدات الدوليّة، بما فيها المعاهدات الرئيسة المتعلقة بحقوق الإنسان ولم تسعفنا المنظومة التشريعية والقانون الأساسي تحديداً، في تحديد مكانة هذه الاتفاقيات والمعاهدات في منظومتنا القانونية، فإنّ بإمكان دستور يتم صياغته بتروٍ أن يحل هذه المعضلة أيضا.

مقترح لصياغة دستور فلسطيني ديمقراطي:

الدستور ليس تشريعاً عادياً، وبالتالي عملية صياغته وتطوير أحكامه وتبنيه ليست كالتشريعات العادية

 

مرت فلسطين بعمليات مبتسرة لصياغة دستور لها، أولها كان في الفترة التي أعقبت اعلان قيام دولة فلسطين، التي صدرت عام 1988 عن المجلس الوطني الذي عقد في العاصمة الجزائرية. ولم يكتب لتلك المحاولة النجاح.

وفي الفترة التي أعقبت توقيع اتفاق اعلان المبادىء الفلسطيني-الاسرائيلي عام 1993 (المعروف باتفاق أوسلو)، كان هناك جهد أفضى بعد سنوات وانتخاب المجلس التشريعي الى تبني القانون الأساسي عام 1997.

وخلال الإنتفاضة الثانية وحصار الرئيس عرفات، اقترحت الولايات المتحدة خارطة طريق عام 2002، تضمنت تبني دستور لفلسطين، تبعه تشكيل لجنة لهذا الغرض، انتجت مسودات عدة. وان كان المحتوى جيدا عموما، الا أن عمل هذه اللجنة كما سابقاتها كان الى حد بعيد مستندا الى نتاج مختصين، مع مدخلات مجتمعية ضعيفة.

وعبّر تشكيل اللجان في المراحل المختلفة - عموما – عن النهج السائد في دوار الحكم والقيادة الفلسطينية، ما أفقد التجربة فرصة الإسهام في الوصول لنصوص تعبّر عن اجماع وطني. فهذه الجهود قادتها الحركة الرئيسة في التيار الوطني، بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وتمّ عموماً استثناء الحركات الاسلامية وأحزاب اليسار. وعملت اللجان في جوّ ملأته ضغوط مارسها الإحتلال شملت احتلال وحصار المدن والرئيس الراحل عرفات. ومن أوضح الأمثلة على هذا تقوية منصب رئيس الوزراء المستحدث حينها، وتهميش الرئيس، على ما يبدو في تجاوب مع الضغوط التي مارسها الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش الإبن.

الدستور ليس تشريعاً عادياً، وبالتالي عملية صياغته وتطوير أحكامه وتبنيه ليست كالتشريعات العادية. وما جرى من مرونة في تطويع النص الدستوري أفقده الهالة والجمود و"القدسية" التي يحتاجها الدستور حتى يتم الإحتكام إليه في القضايا والمواقف الكبرى.

كما أن فلسطين بتعقيد حالتها، ووجود أكثر من نصف الشعب الفلسطيني في أماكن اللجوء، تحتاج عملية لتطوير دستورها تأخذ هذه الحاجات بعين الإعتبار. وهذا ما لم يتم في أي عملية صياغة نص دستوري لفلسطيني في الماضي.

وفي الوقت الراهن تجري محاولات جديدة لصياغة دستور فلسطيني، وتتم هذه بمعزل عن فلسطينيي الشتات، والداخل المحتل، وغزة المحاصرة. هذه ليست وصفة يمكن الدفاع عنها، ولن ينتج عنها التأسيس لدستور يقابل برضى واسع.

لهذا فإنّي سأحاول في الآتي تقديم مقترحات بمتطلبات لعملية أكثر ديمقراطية وتشاورية، تسهم في تقريب الناتج لروح الدستور. تتشكل العملية من مراحل عدة، هي: التشاور والمشاركة الشعبية، والصياغة، وعرض النص للمراجعة، والتبني (القبول الشعبي)، والتعليم والتجريب، والمراجعة إن لزم). وقد بنيت مقترحي هذا على دراستي لعدد من التجارب في جنوب افريقيا ونيبال ونيجيريا وجمهوريات يوغسلافيا السابقة وغيرها.

 1.    التشاور والمشاركة:

الدستور معبّر عن تطلعات الشعب، لا النخب السياسية والخبراء الدستوريين فقط

 

ربما سيشكك البعض في جدوى التشاور ومشاركة المواطن البسيط وغير المختص بالقانون الدستوري في عملية تطوير الدستور، حيث أن النصوص الدستورية في كثير من الدول متشابهة، وأن الدساتير العربية عموما متطابقة النصوص، وتم استنساخها من مصدر واحد تقريبا. لكن في الحقيقة ان التشاور والمشاركة الشعبية أمران ضروريان اذا ما اردنا للدستور أن يكون حيا، لا أن يولد ميتا. فالدستور كمعبّر عن تطلعات الشعب، لا النخب السياسية والخبراء الدستوريين فقط، واجب أن يبنى على ما يعتبره الناس، كل الناس، هاما من الموضوعات، والمنطلقات. فمن يعاني من الخلل الدستوري الذي نعيش، وفشل النصوص في توفير حلول لمشكلاتنا، هم الناس عموما، وليس الخبراء والسياسيين فقط.

ويمكن للخبراء المساعدة في النقاشات وتقديم الموضوعات وعرض الحلول، لكن يجب الاستماع لوجهات نظر المواطنين البسطاء، من رجال ونساء، وأطفال وشيوخ، وبدو وحضر، في الضفة وغزة، ولا ننسى عروس الوطن القدس، وفي الشتات كذلك. لا بد للاستماع للناس من مختلف التوجهات، العلماني والمتدين، والمسيحي والمسلم والسامري.

ولا بد من الاستماع لما يعرضه أصحاب المصالح المختلفة، من العمال والطلاب وأصحاب العمال، ومن المزارعين والتجار والصناع، ومن المدنيين والعسكريين. وفي هذا يمكن أن تلعب المؤسسات الأهلية التي تمثل شرائح ومصالح مختلفة دورا هاما.

2. الصياغة:

يحاول الباحثون والخبراء والمختصون في القضايا المختلفة تقديم حلول مناسبة لفلسطين، آخذين بعين الاعتبار ما عرضه الناس من وجهات نظر ومتطلبات واحتياجات وحقوق، وما ابرزوه من اشكالات. ويمكن انجاز المهمة بتقسيم العمل بين لجان فرعية متخصصة تتناول قضايا مختلفة، مثل المرأة والرجل والاقتصاد والعمل والتعليم والحكم والحكم المحلي والأمن والضمان الاجتماعي والصحة وملكية الأراضي وتشكيل المحاكم واحكام حالة الطوارىء والسلم والحرب والجنسية والهوية مكانة المعاهدات الدولية في تشريعنا الوطني وغيرها.

يمكن تجميع هذه في عدد من الحقول، لكل منها لجنة فرعية تنجز عملها بمعزل عن غيرها، ومن ثم تقوم لجنة الصياغة الفنية بدمج الجزئيات المختلفة ومحاولة ايجاد تناسق فيما بينها، قبل الخروج بنسخة كاملة من مسودة الدستور.

هنا يأتي دور لجنة الدستور، وهي على مستوى سياسي فوق تقني، فتعدل وتضيف وتحذف، وتأمر بالنشر للعموم للتأكد من وجود درجة عالية من القبول لدى الناس للنص المقترح.

* يبين الشكل التالي بعض اللجان الفرعية وعلاقتها مع لجنة الصياغة ولجنة الدستور.

  

3. عرض النص للمراجعة:

يتم استثمار جهد معقول للترويج لنص الدستور الذي طوّره الخبراء، ودعوة الناس والخبراء والمؤسسات الأهلية وكل من يرى رغبة أو حاجة لتقديم مقترحات، واخضاع المسودة للتحليل والنقد. ويمكن اذا ما وجدت لجنة الدستور أن النص لاقى قبولا واسعا، أن تعرضه مباشرة على الشعب للاستفتاء، اما اذا وجدت اللجنة أن النص فيه عيوب كثيرة، تعيده للجنة الصياغة، التي تطلب من اللجان الفرعية- كل حسب اختصاصها – لاجراء مزيد من الدراسة والمراجعة وربما التشاور، قبل ان يصبح النص قابلا للعرض على الشعب للاستفتاء.

4. التبني (القبول الشعبي):

المطلوب ليس التدليس على الشعب ليقول نعم لنص فاسد، بل التوجه للشعب بكل أمانة وأريحية

 

عندما تتكون لدى لجنة الدستور قناعة ان النص معبر عن آمال الشعب وطموحاته، وأنه سيكون اداة رئيسية ترسم معالم فلسطين لعقود قادمة، وفقط عندها يتقرر اللجوء للاستفتاء. ويكون الاستفتاء في الوطن والخارج، ما أمكن، ضمانا لتمكين فلسطينيي الشتات.

وفي هذه المرحلة كما في المراحل السابقة، يكتسب التشاور والمشاركة أهمية خاصة. فالمطلوب ليس التدليس على الشعب ليقول نعم لنص فاسد، بل التوجه للشعب بكل أمانة وأريحية، وبناء على توعية وتثقيف واسعين قبل التوجه للاستفتاء، ومع اعطاء فرصة كافية لمؤيدي النص ومعارضيه لقول كلمتهم وبيان اسباب وقوفهم حيث يقفون من النص، لقياس مدى تأييده لنص الدستور المقترح.

5. التجريب والمراجعة:

على فرض تبني الدستور من خلال الاستفتاء، يتم وضعه موضع التنفيذ. ويمكن خلال فترة ينص علها اخضاع الدستور للتجربة، خلالها يتم بيان أوجه الخلل، وبعدها يتم البحث في أي نقص أو خلل ووضع حلول، يتم تبنيها ايضا باستفتاء.

خاتمة:

ان عمليّة من هذا النوع لا يمكن أن تتم في اطار "انقسامي"، ولا من قبل محور يستبعد محورا آخر، ولا باستبعاد الشعب، ولا على عجل. ان عملية من هذا النوع يجب ان تقوم على أساس تغليب المصالح الوطنية العليا، ووضعها فوق كل اعتبار آخر.

وبالنظر للوضع القائم في غزة والضفة، ربما يستحيل الشروع في عملية كهذه دون التضحية بعناصر جوهرية منها تفقدها روحها. لكن يمكن التوافق على عناص دون غيرها، خصوصا عملية التشاور، والتي قد تسهم بحد ذاتها في التعجيل في انهاء الانقسام وتحقيق توافق وطني عريض على مبادىء أساسية لعملية صياغة الدستور، وربما على حلول لبعض من القضايا الجوهرية التي لا بد أن يتضمنها الدستور.

نصيحتي في الختام لكل من له علاقة: هذا موضوع على قدر كبير من الأهميّة، لا يعالج من خلال هبّات، ولا يفيد فيه انفعال، ويفسده التفرّد، ولا يؤتي أكله إلا من خلال التروي والجديّة والشمول ووضع الصالح الوطني العام أمام أعين الكل.

 


  • البطنيجي، عياد. الصعوبات التي تواجه وضع الدستور الفلسطيني، المجلة العربية للعلوم السياسية، 27 (2010)، الصفحات 110-122.
  • بهلول، رجا. مبادىء أساسية في صياغة الدساتير والحكم الدستوري، عمان: فريدريش ناومان، 2005.
  • الدستور الفلسطيني ومتطلبات التنمية البشرية (أبحاث وأوراق عمل)، رام الله: جامعة بيرزيت، برنامج دراسات التنمية، 2004 .
  • لجنة الدستور. مجموعة الأعمال التحضيرية لاعداد مسودة الدستور، المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، 2001.

  • Barnes, Catherine and De Klerk, Eldred. South Africa’s multi-party constitutional negotiation process, 2002.
  • Benomar, Jamal. Constitution-making and Peace Building: Lessons Learned From the Constitution-making Processes of Post-conflict Situations, UNDP, 2003.
  • Brown, Nathan J. The Third Draft Constitution for a Palestinian State: Translation and Commentary. Ramallah: Palestine Center for Policy and Survey Research, 2003.
  • Constitution Building Processes and Democratization: A Discussion of Twelve Case Studies, second draft, Stockholm: IDEA, 2006.  
  • Davis, Michael C. East Asia After the Crisis: Human Rights, Constitutionalism, and State Reform. Human Rights Quarterly 26, 1 (2004): pp 126-151.
  • Ghai, Yash and Jill Cottrell. Creating the New Constitution: A Guide for Nepali Citizens. IDEA (2008) .
  • Hart, Vivien. Democratic Constitution Making, Special Report 107, United States Institute of Peace, 2003 .
  • Hirschl, Ran. The Theocratic Challenge to Constitution Drafting in Post-Conflict States. William and Mary Law Review, 49 (2008): pp 1179-1211 .
  • Hutt, Michael. Drafting the Nepal Constitution. Asian Survey 13, 11 (November 1991): pp 1020-1039.
  • Mari, Mustafa. Constitution Drafting for Palestine: Towards an Inclusive, Consensus-Building Process, Atlanta: The Carter Center, April 2011.
  • Mari, Mustafa. Negotiating Human Rights in Peace Processes: The Lessons of South Africa, Northern Ireland, and the Palestinian-Israeli Situations. PhD diss., University of Ulster, 2001.
  • Papagianni, Katia. Constitution-Making, Peace Building and National Reconciliation, Lessons Learned from the Constitution-Making Processes of Post-Conflict Countries, United Nations Development Program and the United States Institute of Peace, July 2003.
  • Robinson, Donald L. The Comparative Study of Constitutions: Suggestions for organizing the Inquiry. Political Science and Politics 25, 2 (1992): pp 272-280.
  • Sripati, Vijayashri. Constitutional Politics in the Middle East - With Special Reference to Turkey, Iraq, Iran, and Afghanistan. Human Rights Quarterly 30, 4 (2008): pp 1014-1018.
باحث رئيس في معهد الحقوق، جامعة بيرزيت، حائز على درجة دكتوراة في القانون من جامعة ألستر، المملكة المتحدة. د. مرعي محام فلسطيني، مهتم بقضايا حقوق الإنسان، حيث عمل خلال العقدين الماضيين في عدد من مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية. بدأ د. مرعي تدريس القانون وحقوق الإنسان في جامعة بيرزيت منذ عقد ونصف تقريباً، وله كتابات كثيرة في هذا المجال، وآخر نتاجه تحرير مؤلّف حول الدين والدستور، صدر عن معهد الحقوق في 2013. 

تعليقات

  • لا يوجد أي تعليقات حتى الآن. كن أول من يرسل تعليق

اضف تعليق

زائر الجمعة, 19 نيسان/أبريل 2024